ما زالت البطلة تعيش كعب داير تبحث عن مخرج لها في حكاوى الناس
إقرأ أيضا: يوميات باحص ميداني- الجزء السابع
كانت تحدث نفسها دائما بحديث لا يفهمه ، تهمهم بكلمات
غريبة خشى أن تكون سحرا يُعمل له ، لأنه يحبها ويعشقها كصوفى أحب الآخرة وهام بها
فعشقته الدنيا لتزيل عنه كل أدرانها باتقاء شيطانها فامتحان الدنيا أقسى ما يقع
على قلب الرجل إذا تصوف ، ولكنه عشق جمالها وحلاوة لسانها ، وطراوة ولين عودها
وتخايل الفتيان فى الناحية بها ، وهى فضلته عليهم جميعا ، ولكنها دائما تهمهم
ودائما ينصت ولا يسمع ، غارت منها حماتها وزوجات الأخان الأكبر سنا ، لأن عيون
رجال البيت لا تنفك تلازمها إذا سارت أمامهم ، وأنوفهم تمتد كلما شمت رائحتها
الذكية عن بعد ، وعندما ألمحت له أمه بذلك كتمها فى نفسه ، وهبت رياح الغضب تثير
فى نفسه الهواجس ، وهى ما زالت تتمتم بكلمات غير مفهومة ، لعلها تسحر الرجال فقط ،
لذلك لا يرون سوى جمالها وتعمى عيونهم عن شرها ، وصفر فى أذنه أن يقتلها كى يستريح
من شرها ويهدأ فوران البيت وتهدأ نفوس الحريم به ، ولكنه كلما اقترب منها وهى
نائمة ممدة على سريرها يفوح منها رائحة المسك ينتشى لها ، ويطوق ذراعها رقبته
فينحنى لملكته ، وتباغته بركلة من رجلها فتبين سماناتها البيض ويرتفع قميصها
الشفاف فتعبر عينيه أخاديدها النورانية ويذوب جسده بين قبضتيها ويستسلم اليوم
كشهريار ، ثم يعاود الكرة ويشهر سيف مسرور وتعاود الكرة فيستسلم ، أجبرها على لبس
النقاب فرضيت ، وأجبرها على عدم الخروج فرحبت ، أجبرها على غلق الشبابيك ، فتنهدت
واستسلمت ، وما زالت تهمهم وما زال ينصت ، فرحت فيها نساء البيت فقد كسر سُمها ،
وفرحت هى بكونها ملكة والجميع يخدمها ،
فرض عليهن الإتيان لها بكل مستلزماتها مقابل سجنها بالبيت بعيدا عن رجالهن
، وفرضت هى عليهن أن يحملن لها ما لذ وطاب من طعام من السوق دون تعب ، وأن يتحملن اللف على المحال
كى يأتين لها بأجمل القمصان لتعيش ليلها مع حبيبها ، وكن يحملن تلك الأشياء أولا
إلى حماتهن وكان الرجال يرون تلك الأشياء وتنطلق من صدورهن الزفرات ويسبحن فى خيالات الهوى لما يحدث خلف الجدران ،
كانت فكرة حجابها عنهن أسوأ ألف مرة من وجودها بينهم ، كن ينتظرن طلتها فقط ، الأن
يسيرون إليها بعقولهم وقلوبهم وأرواحهم تحلق حول شبابيك شقتها ، ويهجرن مضاجع
زوجاتهن ليلا تحسسا لشم رائحة بخورها تنفذ من خلف الجدران ، وهى تتمتم وهو ينصت .
ثم ننطلق من المضيفة إلى حارة متعرجة إلى شارع أصغر ،إلى
زقاق ضيق ثم باب خشبى كبير على يمينه حُجرة ، فقط حُجرة ، بجوارها حُجرة وبجوارها
زريبة تفصلها فسَحة ممتلئة بالتراب ،الحمّام البلدى، بابه صغير لا يُدخل سوى عصا بها بعض اللحم
وليس إنسانا ، يستخدم فى الراحة وفى
الإستحمام كما قال ، الحُجرة بها حصيرة على ألأرض الطينية ،فوقها بطانية خشنة مثل
بطاطين الجنود الذين يقضون الخدمة العسكرية برتبة عسكرى ثلاث سنوات بمخلة وبطانية
، وفي الركن باجور الجاز الساكت أبو شرايط ، بعض أرغفة الخبز على صينية قديمة وقطعة
من الجبن الأبيض الإسطنبولى ، الحجرة الأخرى تسكنها فتاة وأمها وأخيها ، بها سرير
وكنبة وشعلة صغيرة ، وقف المراجع وسط الدار وخلفه الباب الخشبى الكبير الذى يغلق
بالضبة كما كانت معظم بيوتات القرية قديما ، وكما حكى عنها خيرى شلبى فى الأوباش
عندما أغلق عليهم الإسطبل بالضبة والمفتاح ، نعم هؤلاءأوباش هذا الزمان ، أو غرابوة خيرى شلبى القادمين من كل
صوب لينهلو من خيرات القاهرة ولكنهم لم يجدوا فيها مكان للسكنى فكانت القليوبية
ومنطقتى الخصوص وشبرا هى أقرب الأماكن للسكن وارخصها فى بعض الأماكن ، ساكن بمائة
جنيه إيجار
وقف المراجع يتلفت حوله ويتساءل، الأسرة التى معنا فى الإطار ليست موجودة ،
والأسر الموجودة حالها لا يسر وليس لديها من أساليب الميعشة سوى حجرة وهلاهيل تسمى
أثاث ، وعيشتها ضنك ، فهل نأخذ واحدة منهم ، أم نتركهم لقدرهم ، وإن أخذنا ، من
سيكون؟ محمود هذا الولد الفار من الصعيد والذى يعيش وحده ولا يملك من حطام الدنيا
سوى جدران أربع ، أم تلك الأسرة البائسة التى ينام ألاخ فيها وتخرج الأم للبيع على
الناصية والعمل بالبيوت ، أم البنت التى وضعتها الأم فى فيلا هذا المتيسر على
أطراف البلد وتركتها تتلقى نصيبها منذ ستة أشهر ، لا هذه لن نذكرها معنا فالبحث
يقر على تواجد أفراد ألأسرة أو من يقيمون معهم لمدة ستة أشهر متتتالية على الأقل ،
إذن فلدينا أم وأبن وأبنة ، هم الأفضل حتى يتسنى لنا وضع بعض البيانات عن الأكل
والشرب واللبس وغيرها ، أما محمود يعينه ربه على غربته وشقاه ، وهجانة هذا الزمن
التى لا ترحم أمثاله من الأنفار الغرابوة .
وانتقلنا إلى
تلك المكنونة عن عيون البشر فقد رافقتنى حتى باب الدار ،
دار أهلها ، قائلة:
العمر لحظة ،والحب متعة، إذا اقترنت هذه المتعة بتلك
اللحظة فهى منتهى الحياة التى يجب أن يحياها الإنسان ، ظلت سنوات عمرها منذ عرفت
أن للأنثى قلب ينبض ، وأن حياتها لابد وأن تقترن بشخص آخر ، ليس أى شخص وإنما هذا
الجنس الأخر ، جنس الرجال الذين تواجدوا بكثرة منذ نعومة أظافرها ، جنس إتحد مع
الكون منذ الأزل ، إتحد مع الروح والجسد ، مع ألأعضاء البارزة والنوايا الخفية ،
إتحد مع الطبيعة من حوله، مع الحيوان والشجر ،وترك مساحة لها فقط ، حواء، كى تتحد معه ، جزء بسيط ، لو كان
الإتحاد معها مكتملا ما ضاق بشر بآخر ، وبالأخص ما ضاق رجل بإمرأة وما خلعت إمرأة
رجل من حياتها ، وما تنازل رجل عن إمراته وطلقها وجعلها سبة فى جبينها وجبين
المجتمع الذى صار لا يرى ولا يسمع ،لكن يتكلم ويعيب ويشتم كل من أصابه عطب ، تنتحب
الصدور وتخرج الآهات مدوية تخترق السما ء تحوقل وتدعى على من كان سببا فى إنزوائها
فى بيت أهلها ، لا تخرج إلا لضرورة وإن
خرجت تلبس النقاب الذى يطبق على صدرها ويمنع عنها الهواء النقى ، العمر لحظة والحب
متعة والغاية تبرر الوسيلة فهل تجد من يبرر لها إرتمائها فى حضن الحب مرة أخرى لا
بل مرة وحيدة وأولى ، المرة الأولى لم يكن حبا ،كان زواجا برغبة الأهل ،هذه المرة
حبا له ولها، بل متعة لا تضاهيها متعة ولكن الخوف يلازمها ،
متعة مع خوف لا تجتمع ، آدم لم يجتمع بحواء إلا بعد أن دخلا كوخهما بعيدا عن
الوحوش وطلبا للأمان ، وأنا لا أطلب منك سوى الأمان فهل ترضى ؟، أفزعه رغبتها فى
الأمان وهى المطلقة التى غواها وهى المطلقة التى أحبته ، وهى المطلقة التى لفظها
المجتمع ، فكر وفكر ثم توارى كالضباع يبحث عن فريسة أخرى ، وعادت هى إلى ركنها
المعهود تحمل شكواها إلى السماء وتبث لوعتها إلى النجوم والقمر والأرض الرخوة التى
تغرس رجلاها في عتمة الليل رفيق الساهرين .
صرنا نطوف كل أسبوع بمكان، نستمع ونغوص فى حكايا ، نسمع
شكوى ، أونرى ابتسامة ، أونشارك فرحا ، أو نواسى حزينا ، هكذا الدنيا يوم لك ويوم
عليك ،أترك حالى ، حزينة، سعيدة، مغتاظة، أو حتى غاضبة ، وأندمج كليا مع الأسرة
التى أدخُلها ، أتفاعل مع حكيها، وعندما تتشابه قصتينا ،أترك نفسى للحكى ،ربما
وجدتْ لدى ما تبحث عنه أو يكون ألمى أكبر مما هى فيه فتحمد الله على ما عندها ، أو
ربما ترى آلآم الدنيا لا تساوى سوى هذه اللحظة من الحكى لغريبة قد لا تراها مرة أخرى
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق