ما زالت البطلة تعيش كعب داير تبحث عن مخرج لها في حكاوى البحث الميداني
الأم لها قدسية خاصة لدى أبنائها ، وهم أيضا لهم قدسية
خاصة لدى أمهم، عندما يتدخل الحرمان بينهما تنهار كل قدسيات العالم ، ويضيع إيمان
السنين بين هلاوس الليل البهيم الذى يسيطر على كل ذرات البدن هكذا كانت عندما طرقت
بابهم:
دخلتُ عليها ، هى وأمرأة لم تترك الصبا بعد ، من يراها
لا يعطيها عمرا أكثر من العشرين بيوم أو يومين ، يقف خلفها ثلاثة أطفال فى سن
الطفولة المبكرة ،آية فى الجمال البنت الكبرى سبحان الخالق، الولدين ممسكين بطرف
جلبابها الواسع يخفيان عيونهم عنى ، هى جالسة على حصيرة من البوص تمسك بيدها سبحة
وعيونها تتطلع إلى السماء ، بل روحها معلقة بين السماء والأرض ، لا أدرى على أى شئ
تقوم إختيارات الأسر ، نعم أعرف انها تُختار بشكل عشوائى ولكن عندما أدخل لمكان
مثل هذا لا أدرى كيف أسأل والحال لا يسر من عتبة الباب وحتى أبواب الحجرات
المفتوحة التى تظهر ما بها من تجاعيد الزمن التى ارتسمت عليها وعلى وجه تلك المرأة
التى بدأت فى الحديث دون أن تسألنى من أنا وماذا أريد أو لعلها سمعت حوارى مع زوجة
الأبن بالباب قائلة:
عندما خرج من الباب عرفتُ أن قلبى سوف يظل مكسورا من
بعده ومكلوما عليه من الحنين ، قرأتُ فى عينيه الحيرة والقلق ، أراد أن يخبرنى
برحيله أو أراد أن يخفى عنى حقيقة ما يمر به من أزمة ، لم يبح لى بشئ ولا لإمرأته
هذه المحصورة على شبابها وجمالها وعيالها من بعده ، سألنا عنه الجدران والناس وحتى
طير السما الجارح ، عام يمر، وأنا في جلستى هذه أغفوا واستيقظ ،أنتظر دخوله علىّ
كما كان ، باسما يقبل يدى ويجلس جواري، يحكى لى عن عذاب يومه وكيف مضى بكل ما فيه
، أطبطب عليه وأضع رأسه على صدرى فينسى كل شئ وينام كطفل وليد إرتاح على ثدى أمه
الذى بحث عنه وهو لحمة حمراء مغمض العينين ،عرفه فالتقمه بفمه وهنأ به ونام ، الأيام
تمر ليلها مثل نهارها، شمسها كقمرها ، حزنها كثير وفرحها عسير ، جسد لا يعرف الموت
له طريقا ولا تعرف الحياة له سبيل ،نظرتُ إلى الزوجة التى سال دمعها وأحمرت خدودها
، وبان عليها الحرمان فحكت لى عيونها ما لم ينبس به فمها ، إستحيت أن أسأل سوى عن
الإسم والعمر وآثرت الإنسحاب وفى رأسى ألف سؤال ، وهى تقول : إدعوا لى لعله يعود
فقد حملت العاقر ، ووضعت الإتان أحمالها ، واخضر اليابس ، وعودى يجف يوما بعد يوم
، ولا أدرى هل تسد جوعه امرأة أخرى أم لا ؟
صبية قوية هزالها من الوجع والحرمان، تتوق إلى جذعها
الذى ترك أرضه متشققة ، هكذا رأيتها ودعوت لها .
أصبحنا نجوب الطرق ونسلك الحوارى كل أسبوع نستمع إلى
القصص ونوهم الناس بالفرج القادم من بعيد ، البعض يتقبلنا بصدر رحب والبعض يزأر
كالأسد دون أن يهجم ، والبعض كالضباع ينتظر فى ظل حجر متهيئا الفرصة لينقض علينا
بكلماته من قبيل ، لما نشوف الباشا الجديد حيفتح باب السرداب ويخرج لنا الدهب أمتى
، ولا العرافين اللى يفتحوا المندل ويعرفولنا الطالع اللى ينسجم مع برج الحوت
والفار الصينى اللى حيمطر علينا في الصيف والشتا دولارات .
أه مثل هذا نقف
أمامه مغلولى الألسنة ، أتذكر كلمات قيلت فى التدريب : أليس لديكم ضمير يعمل بجد
ويأتى لنا بمعلومات سليمة ، ألا تعلمون أن مصير هذا البلد بأيدكم ، أرجوكم ، خرجتم
من بيوتكم من أجل العمل فلتعمل ضمائركم مع كل سؤال ، وكونوا حريصين على بلدكم ،وإلا
خسارة فيكم ما تقبضونه من مال مع إهمالكم
في جمع البيانات .
أضحك بلا سبب فيرمقنى بنظرته وينظر إلى امرأته هل جنت
هذه ؟، هل يرسلون من يستهزأ بنا ، ألاحق ضحكتى وأعتذر ، المال سبب كل مصيبة ، أخرج
من بيتى من أجل المال ، وأتحمل كلمات السخرية من أجل المال ، وأبحث عن حقيقة من
أجل المال ، وأين هو عبارة واحدة نسمعها لمدة ثلاثة أشهر ، ( الفلوس موجودة
والجهاز مش بياكل حق حد ) ولما الـتأخير فى القبض ، مجرد إجراءات ، الصبر ، الصبر
يا جماعة هانت .
نقرر الإضراب عن العمل حتى يشعروا بنا نحن المطحونون كل يوم
فى الشارع حتى الخامسة مساء ، يسارع مدير المكتب هذا الرجل الفاضل الذى قارب على
الخروج على المعاش ويقرضنا ألفين من الجنهيات ، نمّشى بيهم حالنا ، نعترض على هذه
الإهانة ونذكره بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ، ( إعط الأجير حقه ، قبل أن يجف
عرقه ) ونحن جفت حلوقنا من الكلام ، ولكن أيه رماك على المُر ، ما باليد حيلة .
كنا قد إستلمنا العمل فى واحد من شهر يناير ألفين وخمسة عشر ، أى بعد مرور أربع سنوات على
ثورة يناير ألفين وإحدى عشر الشهيدة كما أُطلق عليها فى المكتب، فقد أصابتها رصاصة
غدر بعد عام فقط من فورانها ، وتناقلتها ألأيدى وطافت بها الشوارع حتى غمس الناس
أيديهم جميعا فى دمها فتفرق بين القبائل ولم تجد من ينادى بالثأر ، هكذا يرونها
على الرغم من كونها السبب المباشر فى حصول البعض من المؤقتين منهم على عقودعمل ،
تبعها فى عام ألفين وخمسة عشر التثبيت النهائى،
فكانت وجوهنا فأل خير عليهم فى العمل ، أحتفلنا معهم به بقطع الجاتوه
والكانز ، وكان هذا أيضا من عوامل صبرنا على الشح الذى يعاملنا به الجهاز فى دفع
الأجر، رغبة فى أن يكون لنا نصيب فى عقد ما على أى ورقة قديمة من ورق لف اللحمة
لدى الجزار، رفض الجهاز أن يعطينا إياها
فى بداية العمل حتى لا تكون حجة بأيدينا نطالبهم بها فى التثبيت بعد ذلك ، تمر الأيام ولا حس ولا خبر ، وعود كلها كاذبة .
كان أول مبلغ من المال نمسكه بأيدينا فى يوم مجيد من شهر
مارس هو اليوم العشرون من الشهر ، أى بعد شهرين وعشرون يوما من العمل المتواصل ، واللف
والدوران حسب المناطق التى تُعطى لنا من
شرق القليوبية وحتى غربها من شبرا وحتى ضواحى بنها ومشارف الشرقية ، في كل يوم كنا
ننتظر المهدي الذى يخلصنا من هذه المشقة اللا متناهية ، في ألاسبوع ألأول كان
ذهابنا كل إلى منطقته يوما ، واليوم
الثانى نذهب إلى المكتب ، كنا نجلس هناك مع المراجعين حتى الخامسة أو السادسة مساء
بعد مواعيد العمل ، أى حتى غروب شمس يناير ، المكتب عبارة عن شقة فى
المساكن الشعبية فى الدور الأرضى ، بها مجموعة من المكاتب الصاج الذى أتى عليها
الدهر وأكلها الصدأ من جوانبها ومن فوقها ، وغطاها البعض بمفارش ملونة رديئة ، كان السكان يأتون
ويذهبون علينا صعودا وهبطوا يلقون بنظرات الشفقة من تأخرنا فى العمل حتى نتمكن من
كتابة البيانات بشكل صحيح، أتاحت لنا خبرة المراجعين فى البحث السابق والذى
كما قالو كان أهون كثيرا من هذا ،عدد ألأسرالمبحوثة أربعة فقط وعلى مدار أسبوعين
كانوا يجمعون البيانات فى كل منطقة ، ونحن ليس أمامنا سوى أسبوع واحد لخمسة أسر
كاملة يتم جمع بياناتها التفصيلية من بيانات خاصة إلى مأكل ومشرب ومصاريف في شتى
مناحى الحياة والممتلكات والدخل وغيرها .
تم تقسيم
الزيارات إلى أربع فى الأسبوع ، يا الله هل يمكن أن تستضيفنا أى أسرة كانت طويلة
البال وصابرة وبشوشة ووو أربع زيارات فى أسبوع واحد ، الله المعين ، تم تقسيم الأسئلة على ما يأتى: اليوم الأول
نسأل عن البيانات الشخصية من الإسم والسن والحالة الإجتماعية والحالة الصحية
والعمل ، واليوم الثانى نسأل عن مشتروات الأسرة خلال ستة أشهر من الإبرة إلى
الصاروخ ، واليوم الثالث نسأل عن ما تتناوله الأسرة من طعام خلال أسبوع البحث
القائم بمعنى : كل ما قامت الأسرة بشرائه خلال الأسبوع من أجل الطعام والشراب
وأسعاره ،كم عدد أرغفة الخبز ، وكم كرنبة ، وعدد كيلوات الأرز والمكرونة وكم كيس
من الملح والبهارات وووووووووو . أسئلة كانت بعض الأسر تقابلها بالضحك والبعض الآخر
بالسخرية والبعض بالكسوف لأنهم لا يجدون ما يسد جوعهم سوى الخبز والجبن أو بعض
أقراص الطعمية وطبق الفول وهذا هو إفطارهم وغدائهم وقد يبيتون بدون عشاء ، فتشعر
الزوجة بالخجل من البوح ، وطبعا الحدق يفهم ، كنا نحاول التغاضى عن حالة الأسرة
ونقوم بدلا منهم بهذه المهمة على قدر معرفتنا بظروفهم ، نوع من الحرمان الذى
نصادفه فيكسر قلوبنا ولا نجد بالمقابل من يسمعنا من الجهاز ليساعد مثل تلك الحالات
فنشعر باليأس وتفاهة ما نقوم به من عمل وأنه خدعة كبرى فى منظومة فشل لا تنتهى .
مكتبنا به حوالى أربعون موظفا، عدد النساء يعادل عدد
الرجال ويزيد ، لا يوجد به ترتيب وظيفى فلم يصبح السن أو الخبرة عامل للترقى ، بل
الشهادات العليا ، الحاصل على ماجستير حتى وإن فقد عوامل حسن الإدارة والتعامل فهو
الأجدر بالترقية ، السيدة الفاضلة التى جاوزت السابعة والخمسين وأشرفت على البحث
وكانت معنا خير مديرة ، تُمسك العصا من المنتصف دائما ، ترخى وقت الرخو وتشّد وقت
الشدة والضيق فى الوقت ، تتعامل معنا كأم أولا، تحافظ على ماء وجهنا مما نلاقيه
بالشارع وتبسط الأمور ،بأن البشر أمزجه ، وعليك أن تتحلى بالصبر لمعاملة تلك الأمزجة
ومعرفة نقاط ضعفها وسكة الوصول لها ، وعندما تشعر فينا ببعض الكسل والتأخر فى
تسليم البيانات ، تصير كالثور الهائج ، فتُبكت هذا وتنهر تلك وتبين أن العمل ليس
لعبة وأن لكل تقصير تبعات ، كنا نحبها لأنها ليست كباقى العاملين فهى راضية عن
حياتها وعن إنجازها ، ولكن كما قلت هذا الجهاز لا أمان فيه ، فى غمضة عين وبعد
أكثر من نصف مدة العمل، تم إقصاؤها عن البحث وعن الإشراف ، بمعنى آخر يصير الفرد
داخل عمله كخيل الحكومة يُعّد أيامه حتى يخرج على المعاش .
علاقة العسكر بالمدنين كالقط والفار ، يبحث كل منهم عن
فرصة لإختراق الآخر ، ولكن القط دائما يكون سبّاق ، فهو صاحب السلطة والأمر والنهى
، وبمرور الوقت تحول كل ميدانى فى الجهاز إلى قط كلما سنحت له الفرصة لأن يكون آمرا ، يستخدم نفس
اللهجة المتهكمة ، والأوامر الصارمة ، والعمل على سرعة الإنجاز دون النظر لأى
إعتبارات أخرى قد تؤثر فى جودة العمل وكفاءته ، كنا نعيش تجربة قد تكون مسيطرة على
قطاعات الحكومة ووزارتها فى السنوات ألاخيرة ، فالتجديد والبحث عن التطور ما هو
إلا شكل من الأشكال الظاهرية فقط أما الباطن فكما هو بأدواته ورجاله لم يتغير ، كان
لابد مع موجة التغير من رؤساء مدنين إلى رؤساء عسكرين من أجل سرعة الإنجاز والضبط
، أن يتغير كل العاملين حتى تتواجد لغة تفاهم كاملة فى العمل ،وألا يحدث هذا
التضارب الكبير ويؤدى إلى نفس منظومة الفشل القائم ، أو على الأقل أن يتحول
العاملين والعاملات بالمصالح الحكومية إلى معسكرات تدريب وتهذيب وإصلاح والدفع
بمرتباتهم إلى نفس المستوى الذى نسمع عنه فى المؤسسات العسكرية ، هذا كان إقتراح
أحد العاملين القدامى والذى جار عليه الزمن فثبُت فى مكانه لا ترقية ،ولا معاملة
بكرامة .
الجميع دائما متجهم إلا من رحم ربى ، فالمرتبات ثابتة ،بل
على العكس أصبحت الخصومات منها تكثر كل عام بحجة التبرع لصندوق تحيا مصر ، وكيف
تحيا مصر وأبناؤها يموتون من الضرائب والأسعار وشكايا الزوجات ، الموظف صاحب
الثانية والخمسين سألته الزوجة أين باقى المرتب فأجاب تم خصمه ، لماذا ، لا أعرف ،
رفعت سماعة التليفون وسألت مديرا بالإدارة الزراعية قريب لها فأكد على عملية الخصومات
ولكن ليس بهذا القدر فمبلغ أربعمائة جنيه كثير ,وأردف ، أسألى جوزك ودّاهم فين ،
وكانت النار التى اشتعلت فى البيت !
بدأنا فى التعود على البحث ، وحفظنا منه الأسئلة
الهامة التى يجب ألا نفلتها أبدا وتعودنا على السير مسافات ،إرتاحت أقدامنا لهذا الإصرار
وتحملتنا قدر الإمكان ، كنا نجوب المدن ونرى رغد العيش فى مبانيها ، ونعرج على
حارة ونرى صلف العيش على وجوه أطفالها لا يفصلهم سوى جدران من الطوب وعلامات طرق ،
وأسماء شوارع ، ونجوب الريف ، ونلمح رغد العيش فى مضيفة بها بُسط من السجاد ، تملؤها
المساند التى تحولت من القطن المصرى إلى المساند الصينى المنفوشة ، وفي وسطها موقد
النار (الشاليه)وحول النار سلاح القهوة النحاس عند البعض المتمسك بالقديم وهيبته ،
أو البراد الألمونيوم لصنع الشاى على شعلة الغاز ، ثم تطل علينا بجمالها
وابتسامتها الرائقة كمياه النهر الصافى تحدثنا بأكثر مما نريد ، تقترب ، تريد ان
تتحدث ، أن تُسمعنى صوتها واضحا كمن فلتت من سجن كل من فيه فرض عليه الصمت :يوميات باحث ميداني -الفصل السادس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق