يوميات باحث ميداني الفصل السادس
هكذا وجدت حياتى تنوء بحملى الثقيل ، وكان العمل هو الحل
الوحيد ، نادت علىّ جارتى كى أساعدها يوما في نزح ترنش البيت فلا مجارى ولا عربات
نزح تجوب البلد ، حملت معها الجرادل التى يناولنى أياها زوجها كى أضعها بعربته
الصفيح فوق القش وبعض التراب حتى يتشرب الماء ، ثم يأخذها إلى خرابة القرية
البعيدة ويرميها ، فى آخر العمل وجدتها تعطينى خمسون جنيها ، آلمنى تصرفها ولكنى
توقفت برهة والنقود بين يدى ويدها ، وطرأت الفكرة على ذهنى ، ما المانع؟ ، وجدت
عقلى يرفض الفكرة ، لا لا لا ، ثم نظرت فى
عيونها وأخذت النقود ، في اليوم التالى كنت أسير نحو الحداد أطلب منه عربة نزح
ولكن بحمار ، توقف لحظات ينظر إلى تلك المجنونة ذات اليد الناعمة والتربية المرفهة
التى تزوجها هذا الذى لا يعرف قيمة تلك الجوهرة وكيف أنه باع الورد ليشترى العُليق ، طلبت منه مرة أخرى أن
يصنع لى فنطاس مثبت على عجل يكفى لنزح كنيف على مرتين فقط لا ثلاثة ، لم يرد
للحظات فهمت منها أنه يريد أن يسأل عن المال ، خلعت من يدى إسورة ذهبية ووضعتها فى
كفه وقلت له إن لم يكفِ ثمنها سوف أقسط الباقى ، ولكنه ردها إلى ، خشيت أن يكون
مضمرا شيئا آخر ولكن النوايا عند الله وسوف أتعامل مع كل شئ عندما يحدث ، أيام
قلائل وانتهى الحداد من صنع ما أريد ، مرساله أتى بالبشارة ، ذهبت إليه وقد استلفت
حمار جارتى، جررته سيرا فلم أتعود ركوب الدواب ، وصلتُ فوجدت العربة الفنطاس على
أربعة أرجل تنتظر من يجرها ، وحتى لا تتسخ يدى كثيرا ، وضع بداخلها خرطوما فى آخره
محبسا بإتجاهين واحدة للشفط وأخرى للتفريغ ، وهكذا تحولت القرية من التحميل اليدوى
إلى التحميل بالشفط ، يجر الحمار العربة وأجر أنا كبريائى الذى أخشى عليه من كلام
الناس ، مطمئنة نفسى أن الكل لن يزدري مهنتى وإنما سوف يزدرى هذا الرجل الذى باع
الغالى بالرخيص ، سوف يكون هو سُبة الناس كلها ، سوف يقفون معى ويساعدوننى ويلعنون
كل يوم قضيته بأحضانه ولم يقر به إقراره بمحبة تلك اللعوب التى اختطفته ، سوف ألقى
بكل تلك الأيام فى كل بئر من القاذورات التى أملأ بها الفنطاس ، ألقيها معها فى
تلك الخرابات التى تئن من نتنها ، سوف أنسى كل تلك الليالى التى اقترب منى فيها
وعانقنى وجذبنى من شعرى وأطلق أنفاسه بين شفتى وتوله أمامى كعابد يطلب عطية
مستحيلة المنال
إبتهلت كثيرا فى
أيام فراقه ألأولى إلى الله أن يهبنى الصبر ليس على فراقه ولكن على عزة نفسى وكبريائى
التى جُرحت بفعله ، فما أنا بصحراء جرداء وما أنا بالعويلة ، وما كان قومى طنباء
لا وطن لهم ولا دين ، ولكن الله ابتلانى، الصبر
على البلا ء من الإيمان ، تذكرت الصلاة فجأة ،لم أكن أصلى ولم يكن يُصلى ويقول
إمام الجامع ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) ولكل شئ سبب ، والسبب هو
الشيطان الذى ينتهز الفرصة ويوسوس لنا، لأننا ابتعدنا عن الصلاة ،ربما ،أو لعلها
هى شيطانى الذى وسوس واستغل حيائى برعونتها وميوعتها ، أو لعله الحرمان ، الشيطان
ألأكبر الذى يفاجئنا دون إنذار فيوسوس ،الزن على الودان أمر من السحر .
لم يكن المبحوثين فقط من يحملون الهموم والشكايا ويعانون
الحرمان ، نحن أيضا نعمل وفوق أكتافنا حرمان يؤرقنا ويمنع النوم عنا ، حكت بعد
نفاذ صبر وطمأنينة لنا فالعمل دائما يقرب القلوب
ويوحد الهموم ويوزعها فتخف أثقالها :
إقرأ أيضا:يوميات باحث ميداني الفصل الخامس
لا تدرى هى ولا أدرى أنا كم هذا الحرمان الذى أحمله بين
كتفى مرورا بصدرى الذى يئن وعروجا على رأسى الذى لا ينفك يفكر فيه ، كيف حرمت نفسى
من الفكاك من كل هذه القيود كى أمارس حريتى داخل هذا المجتمع المحروم مثلى ، والذى
حرمنى كل حقوقى فى الثورة على تقاليدى البالية ، وعلى ملابسى التى تطوق عنقى كحبل
المشنقة ، وعلى كلمات التحذير المستمر والتخويف من كل ما يحيط بى من رجال ونساء
وسيارات وكاميرات مراقبة متناثرة من أجلى أنا فقط ، هكذا عشت سنوات عمرى الأولى ،
وعندما التحقت بالجامعة ورأيت نفسى قد فككت بعض قيودى الأسرية ، ها هم يحاولون
إعادتى إليها مرة أخرى ، هكذا أفرجت عن بعض همومها ، على الرغم من حذرها الدائم
وسكونها التام أثناء العمل ، فهى تستمع أكثر مما تتحدث، وتحاور على استحياء، إذا تطرقنا إلى أحوال البلد والثورة نجدها طلقة
رصاص قد فتحتْ ماسورة المسدس وانطلقت مغادرة حجزها إلى قلوب كل من يعارضها فى رأيها
، فهى ثورجية من الدرجة الأولى ، وكيف لكلية سياسة واقتصاد ألا يكون لها دور كبير
فى أحداث بلادها ، وهى القريبة من الميدان وثائريه من الشباب أمثالها ، وبعيدة عن
بلدتها الريفية كل البعد بحجة التعليم الجامعى ، مما أتاح لها الخروج والإندماج فى
مجتمع المثقفين والثائرين من الشباب وغيرهم ، هى دائما ترى أن المرأة مكانها كل
الميادين ، ميدان التعليم والعمل ، والإصلاح ، والثورة ، وهى ليست دمية أو متاع
يلهو به الرجل فقط ويغار عليها كما يغار الطفل على لعبته ، وليس هو شغلها الشاغل
تعمل على إرضائه ليل نهار ، تتزين له ،تطبخ له،تغسل له، تنتظره حتى يعود منتفخا
شامخا أنفه إلى أعلى، تسارع بخلع حذائه ووضع رجليه فى ماء الورد ، هى دائما بسبع
أيادي مطلوب منها كل الأشياء بوقت واحد ،بالفعل المرأة دائما قادرة على تلبية كل
الطلبات بزمن قياسى ، هكذا كانت ترى أمها ، ولكن هل يرضى ؟ هنا السؤال الذى ظل
يؤرق مضجعها كلما أتت لها أسرتها بعريس ، يحاولون دائما ان يكون فيه من صفات
الكمال ما يتعذر معه الرفض ، وسيم ، غنى ، مستقل عن والدته خاصة ، يشارك فى
الجهاز وفى أعمال المنزل ، كأنه إعلان على مواقع الزواج الشهيرة على النت، تهادنهم
، تلتقى به فى جو عائلى لا يخلو من الإبتسامات والكلمات المجاملة وفي قرارة نفسها
أن تتقمص دور لبنى عبد العزيز فى فيلم آه من حواء ، مع ذلك هى لن تعدم وسيلة
للتخلص من هذا الذى سوف يربطها بالأرياف مدى حياتها ، على الرغم من كونه رجل أعمال
طور عمل والده واستقل بنفسه ، كنا نحاول إقناعها بقطار الزواج الذى سوف يفوتها ،
وأنها يمكن أن تمارس العمل من خلال أعمال زوجها ,أن تفرض هذا عليه وبالتالى تكون
ضربت عصفورين بحجر، الزواج والإستمرار فى العمل ،لكنها خشيت أن يوافق فى البداية
خاصة وقد أبدى إستعداده لتلبية كل رغباتها ، ثم تقع فى المحظور كأى زوجة عادية
همها البيت وتربية الأبناء ، وأن يتحول هو إلى سى السيد ، تعللت بكونه معهد فنى
صناعى وهى كلية عليا ودبت خناقة مع أسرتها وتركتهم عائدة إلى القاهرة تبحث عن فرصة
عمل فى الصحافة حلم كل الشباب حتى لا تستلم إلى الحرمان الطبيعى من حقها فى الحياة
، وهكذا تركتنا فى منتصف الطريق لا هى أكملت البحث ولا وافقت على العريس .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق