يوميات باحث ميدانى
كنت اتمنى أن أكون ضابطا، وأصل إلى رتبة لواء
********************************
فى أواخر العام 2014 وفى خضم الأزمة التى تمر بها مصر على الصعيد السياسى والإجتماعى والإقتصادى ، "إعلان على النت"، وظيفة باحث ميدانى لدى الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء ، من شروطها: أن يكون المتقدم على معرفة جيدة بالكمبيوتر وإدخال البيانات، إرسال السى فى على الإميل (0000)، بعد أيام مرت كأنها عام، تم تحديد موعد المقابلة فى مقر الجهاز الكائن بشارع صلاح سالم.
القادم من المترو، يركب إتجاه العباسية من محطة العتبة ، والقادم من رمسيس سوف يجد العديد من المواصلات المتاحة في إتجاه شارع صلاح سالم ، وإذا أردت أن تركب تاكسى فلا تخبره بوجهتك، قل له: الجهاز المركزى للمحاسبات، لأنك لو ذكرت جهاز الإحصاء فلن يُقلك، ثم عليك السير مسافة بسيطة حتى جهاز الإحصاء المجاور لجهاز المحاسبات، فمعروف لدي مرتادي جهاز الإحصاء، أن العاملين به ا غلابة ويفاصلون فى أجرة التاكسى ، هكذا عرفت من الإنترت.
مواعيد العمل الرسمية من الثامنة والنصف وحتى الثالثة عصرا ، لكل عامل هناك كارت يدخله فى ميكنة خاصة لتسجيل ميعاد حضوره ، الجدية والصرامة هما أساس العمل، يرجع ذلك لتولى السلطة العسكرية أمره فى شخص اللواء (....) ، ويليه مجموعة أخرى من لواءات الجيش الذين يمسكون بزمام الأمورفي كل قطاعات الجهاز .
الفرحة العارمة بالإتصال عليك وأنت في أشد الحاجة إلى عمل لا تضاهيها أى فرحة أخرى، والنكسة الكبرى التى لا تعادلها نكسة تطيح بكل مقدرات حياتك، عندما تكون مقاليد أمورك متوقفة على كلمة شخص ما، ترى نفسك أحيانا أكثر منه علما وثقافة ومسايرة لأمور الحياة، ولكن للخبرة والسن دور لابد من إحترامه أيا كان مؤهلك العلمى أو مؤهلاتك الشخصية، هناك رعشات خاصة بالمقابلة الأولى فى مشوار البحث عن وظيفة، تلك الرعشة تزداد نبضاتها مع رؤية طابور المتقدمين الطويل، ومعظمهم من الإناث، لأن الأنثى هى المفضلة لدى الجهاز فى العمل البحثى الميدانى وسوف نسرد لماذا فيما بعد، الرعشة الثانية تأتى مع خروج كل واحد أو واحدة، السؤال الأول المطروح عن خبراتك وماذا تعرف عن مجال العمل الإحصائى ؟، هنا يبدأ تسارع النبض، وارتعاشة القلم فى اليد، وضبابية فى رؤية العينين كمن يصارع إغمائة على وشك الإنقضاض على هذا الجسد، الدعوات والنظر إلى السماء هما سمت الإنتظار، والبحث عن معلومة عن الجهاز ومجالات عمله .
أمي شايلة كفنها
أمي شايلة كفنها
الدور عندما يصيبك ويتم نداء اسمك تتردد في الرد فيسارع صديق تعرفت عليه أثناء الإنتظار، وبث كل منكم شكواه إلى الأخر، بلكزك فى كتفك ، هو مش دا أسمك، تنتفض مسرعا وأنت تقاوم فعل الترنح والسقوط من هول المفاجأة التى مر عليها دهر كامل فى حالة الإنتظار تلك .
اللجنة مكونة من ثلاثة أجسام، على الأطراف يجلس السمينين وفى المنتصف بدا هذا النحيل مرواغا يُخشى منه، السؤال المعتاد عن الإسم والمؤهل، هنا المفاجأة الثانية أنا أسمى منال، نعم، أنا أنثى تعدت الخامسة والثلاثين وتبحث عن عمل، لا يهم الأسباب التى دفعتنى لهذا الأن ولكن المهم أن هذا هو أول عمل أتقدم له على الأطلاق، يجعلنى أحتك بالعالم الخارجى مباشرة.
العلاقات الأسرية والزواج والإنجاب لها أثرها، لكن التقدم لوظيفة والإحتكاك بالآخر الذى لا أعرفه ولا مقدمات لمعرفته أيا كان هو، رئيس ، أو مرؤس ، أو زميل متقدم سواء ذكر أو أنثى، تلك حالة أخرى تحتاج إلى إختبارها جلد وصبر وإدراك لما يدور من حولك .
في كل مكان للواسطة سبيل، وللمعارف سبيل، وللقبول الأًولى سبيل نحو نيل الوظيفة، كل هذا كان يتجمع حولى، كلهم في سن الشباب من العشرينات وحتى الثلاثين وقليل من تعدى الثلاثين، بعضهم يملؤهم الغرور والبعض الأخر الثقة التى استمدوها من خبرات عملية أخرى، وبعضهم لا يهتم بشئ فهو واثق بأنه من المختارين، هؤلاء أبناء المحظوظين في مجتمعنا بالواسطة - وكله بعد كده يجيى بالعلام أو لا يأتى .
النظرة الفاحصة التى يرمقنى بها أعضاء اللجنة تأتى من منبت شعر رأسى الذى يُطل من تحت طرحتى وحتى أخمص قدمى الذى يرتطم بالكرسى الذى أجلس عليه، وانا أتفحص هذه الكروش، وهذه الأفواه التى تسأل في لا مبالاة فالأعداد كبيرة ، كلهم على استعداد للعمل من الغد، لكن المشكلة التى تواجه اللجنة كما أوضحو فى كلامهم، أن المهم هو تحمل طبيعة العمل الميدانى، وهذا يحتاج إلى جرأة وصبر وقوة إقناع ومحاورة الآخر، قلت فى نفسى أنا أملك كل هذه الصفات، مَن حولى يشهدون لى بذلك، فعلاقاتى جيدة بمن حولى رغم محدوديتها، ولدى من قوة الحجة وسهولة الإقناع ما يؤهلنى للعمل، ولكن ما هو العمل؟ لا نعرف ماهيته ، عندما بحثت على الإنترنت عن الجهاز وأعماله وجدت أن ما يشتهر به هو التعداد السكانى ، قلت : ودى حاجة ، عد الناس ؟!
كان الرد على سؤال : ما أهم الأبحاث التى يقوم بها الجهاز؟ قلت : التعداد ، وصمت والحمد لله أنى صمت ولم أعلق بتفاهة هذا البحث وإلا كنت طردت شر طرده، إنتهت المقابلة وبقى إختبار الكمبيوتر.
ورقة بها بعض الأرقام ، وأربعة أسطر تُكتب على وورد .
التعليمات : إفتح فايل، ثم أفتح وورد داخل الفايل واكتب هذه الأسطر، ثم افتح هذا الجدول على سطح الكمبيوتر ودوّن هذه الأرقام فيما لايزيد عن ربع ساعة، تسارعت الأيدى الممدودة على الكمبيوتر تبحث وتعسس وتكتب وتسجل الأرقام، كانت سرعتى تُسابقها دقات قلبى المتهورة ورعشات يدى، يكفيكم الله شر اللهفة على الوظيفة فهى تدفع الإدرينالين بغزارة إلى كل أعضاء الجسد فإما تكون دفعة نحو الحصول على المبتغى وإما أن تكون إنهيارا تاما، الحمد لله إستطعت أن أحِد من إنفعالى بالموقف وتوقف دفق الإدرينالين عند مستوى التحفيز الجيد، إنتهيتُ قبل مضى المدة وخرجت للإنضمام لمن سبقونى في نقاشاتهم حول إعلان الوظيفة، خاصة وأن البعض منهم قد سبق لهم التعامل مع الجهاز والعمل معهم، وهو ما عرفته لتوى، أن العمل مؤقت لفترة محددة تنتهى بإنتهاء البحث ،( الخيبة الاولى ) لا استقرار، حدثت نفسى : وماله خليها على الله سنة وبعدين ربنا يعدلها
صوت يعلو من وسط الجموع
العالم دى بتضحك علينا، إختبار وبس من غير ما نعرف ماهية العمل ولا القدر المدفوع به
يرد آخر، أسكت بلاش مشاكل شوية ونعرف كل شئ
ترد أخرى بس حرام كل دا شباب جاى من محافظات ومتحمل مواصلات ومفيش حد بيقول كلمة كويسة تطمنا، ونتيجة الإختبار دى نعرفها إزاى وأيه المطلوب منا ، لا فى أوراق ولا عقود ولا أى شئ ؟
بعد فترة :
خرج علينا أحد أعضاء اللجنة الموقرة قائلا : كل واحد يمشى مش عايزين تجمع هنا والنتيجة حتكون في مكاتبكم الإقليمية، تقدروا تسألو هناك بعد يومين .
إنصرف الجميع، في قلوبهم وعيونهم خيبات عديدة وأمل واحد، أن يكون كلامهم جديا بالفعل، وهناك عمل محترم يقومون به قريبا، يتخذون عليه أجرا مناسبا
أما أنا فكنت أحاول التودد إلى الله فهو ملاذى الوحيد، أخذ لسانى يلهث بذكره وحمده وطلب العون منه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق