يوميات باحث ميداني
يوميات باحث ميداني
المترو وسيلة مواصلات سريعة وخفيفة الظل، أصبح تحت الأرض
أرحم بكثير من فوقه، فى حرالصيف نجد تحت الأرض تكييفا، نسمة لطيفة يمكن أن تعكرها الأنفاس الكثيرة
المتزاحمة، وفى عز الشتا نشعر بالدفىء، الكل يقترب من الأخر كأنه يريد إحتضانه كى يرمى برد قلبه فيه،
" الحاجة الوحيدة اللى تنغص عليك وقفتك في المترو
هى عيون البنات الحزينة رغم صغر سنها"، أصبح سمت العيون الحزن، وأحاديث
المتزوجات العائدات من عملهن وهن يحملن
هموم الكون فوق أكتافهن من المسؤليات الكثيرة التى لابد من إنجازها، وإذا تطرق الموضوع للمصاريف وهموم
الأبناء والدراسة، يتوقف الزمن عند شئ
واحد، قهر الحياة، وأنا استمع وأنظر حولى فى عيون كسيرة وقلوب مهدمة من داخلها
وبصيص أمل فى محطة قادمة من الحياة
عودة إلى البيت وانتظار الإتصال المُنجى بالقبول فى
الوظيفة الجديدة ، من حسن الحظ أن الجهاز كان يستعجل العمل فى هذا البحث، أتى
الإتصال بعد يومين، كنت قبل الأخيرة فى الدرجات فى الإختبار، وضعت يدى على قلبى،
ثلاثة وعشرون ولد وبنت، معظمهم من الفتيات .
بلهجة المدير
قالت: إن شاء الله التدريب يبدأ فى الجهاز من أول شهر ديسمبر لمدة واحد وعشرون
يوما مدفوعة التكاليف، بعدها يتم إختبار آخر، على أساسه يكون الإختيار، خيبة أخرى،
وانتظار آخر، وقلق جديد من التدريب وما يكون فيه .
أول يوم من التدريب، نفس المعاناة حتى الوصول إلى مقر
الجهاز بشارع صلاح سالم، لابد من الوصول فى الميعاد، التدريب بالدور الثانى عشر، الأسانسير
يقف امامه طوابير طويلة، الكل يريد الوصول قبل ميعاد الإمضاء، الملفت فى الطابور
هو عدد السيدات الذى يُضاعف عدد الرجال بمرات.
الملحوظة الثانية :
الأحجام الكبيرة هى سمت الموظفات، أعمار معظمهن فوق الخامسة والأ ربعين أو
هكذا خيل لى، ثلاث أسانسيرات، هذا صاعد وذاك هابط ، ستة أو سبعة أفراد يقلهم، لكل
منهم دور يهبط فيه، أفكر فى الصعود على السلم ، تلكزنى زميلة تعرفت عليها أثناء
التقديم، حرام عليكى إثنا عشر دور أصبرى لدينا الوقت الساعة التاسعة إلا ربع،
المهم صعدنا أخيرا، لم نجد الكثير من الزملاء ، تجاذبنا أطراف الحديث، البعض من
مكتب شمال القاهرة ، وألآخرين من مكتب جنوب القاهرة، ونحن من مكتب القليوبية، لم
يظهر أحد حتى التاسعة والربع من العاملين بالجهاز أو المدربين المنتظرين، بحثت عن
مكان أشترى منه الشاى ولحسن الحظ كان معى ساندوتش أعددته مع سندوتشات أولادى مبكرا
قبل ذهابهم إلى المدرسة، دسسته فى حقيبتى بسرعة وهرعت إلى الشارع كى ألحق بعربة
قبل الزحام، وجدت حجرة صغيرة يعدون بها الشاى، وسندوتشات الطعمية والجبن والبيض،
كان الشاب كريما وتركنى أعد كوب الشاى على مزاجى، ملعقة سكر واحدة وملعقة شاى،
أنتحيت جانبا وبدأت فى تناول إفطارى، ظهر فى الأفق المدرب الأول، الساعة التاسعة
والربع، يصدر أوامره بالإمضاء في دفتر عُد
خصيصا للقادمين من أجل التدريب، وبدأت الأعداد تكثرحتى ضاقت بنا حجرة التدريب، كان
لابد من استبدالها بأخرى أوسع ، كل هذا يأخذ وقتا كثيرا، تعدت الساعة العاشرة ، ظهر كل المدربين، وجلس
المتدربين على المقاعد فكان الأمر الجديد، كل منطقة تجلس بجوار بعضها، وبدأت
التحركات مرة أخرى، وأخيرا استقر الوضع، على المنصة فى الأمام ثلاث مدربين، وخلفهم
شاشة كبيرة للشرح.
قبل الشرح هناك قواعد لابد أن تتلى ويتم تطبيقها بعناية
:
التدريب مدفوع ألأجر (يا سلام دا جهاز محترم ) رد أحد
الزملاء ، تهكم آخر ( يعنى كام خمسمائة جنية ) مش وحشين يا عم بس ناخدهم، الدفع
هنا عند أم،،،،،وسكت ولم يكمل فقد تنبه له المدرب وشخط شخطة قوية، مش عايزين كلام من
أولها عايزين نركز علشان نفهم، البحث ثقيل وعايز شغل جامد ، والإستمارات مليانة ،
واللى مش عايز يتعلم يتفضل يمشى من الأول .
ساد الصمت، وبدأ المدرب فى تناول الإستمارة وقراءة
العنوان (إستمارة الدخل والإنفاق والإستهلاك ) وبدأ الهمس في القاعة من جديد
بجوارى يجلس أحد
المراجعين كما يطلق عليهم في الأبحاث – لكل بحث باحث ميدانى ومراجع للبيان – ممن قاموا بهذا
البحث من قبل، قائلا: مفيش تغيير هو نفس البحث اللى اشتغلنا عليه بس لازم نعمل
حكاية، يلا ربنا يسهلها ونخلص .
أسكت يا أستاذنا مش عايزين كلام من المدرب من أولها، ضحك
قائلا : المشانق حتتعلق يعنى مش مهم أنا مش عايز أشتغل البحث ده خالص .
لفتت نظرى هذه الجملة كيف لا يريد العمل في بحث ما، وما
هى نوعية الأبحاث التى يقوم بها الجهاز، وتبين لى مدى جهلى بقطاع مهم في الدولة
يقوم عليه عدد هائل من الموظفين فى القاهرة والمحافظات، وبدأ الفضول يأخذ مجراه
معى .
علىّ شخصية ظريفة جدا ومرحة ، يُصاحب الجن إذا نزل الأرض
ولو ساعة ، ويتعرف بملائكة الله في الأرض، وأقصد بهن بنات حواء الجميلات المتأنقات
المتقدمات للعمل، وليس العاملات بالجهاز، الذي ختم عليهن العمل والزمن بختم اللامبالاة،
واليأس، والإستسلام للواقع بكل ما فيه من مر وحلو ، إستطاع فى زمن قصير أن يتعرف على معظم المتواجدين من
المتدربين والمتدربات والمراجعين ، أدار معهم حوارات هامة عن ماهية العمل بشكل عام
فى الجهاز والمكاتب والفرعية.
علىّ إنسان
مجتهد فى حياته دارت عليه الدنيا وكشرت عن أنيابها كثيرا وهو لم يتعد الثلاثين، بعد إمتهان عدة مهن بداية من سائق التوكتوك
وانتهاءً بالعمل فى الجهاز، تراه دائما مبتسما حتى وهو يلعن سلسفيل الدنيا ومن يتحكمون
بمصائر الخلق والشباب والشهادات المعلقة على الجدران، ولكنه دائما يحافظ على
المساحة التى لا تفقده علاقاته بالآخرين من أدب الحديث واحترام الغير وتقدير من
يستحق ، إتضح كل ذلك بعد أن بدأنا العمل الجاد فى بحث الدخل والإنفاق والإستهلاك .
واحد وعشرون يوما، أهم ما فيها المحافظة
على مواعيد الحضور والإمضاء في التدفتر، الذى يتحكم بعد ذلك فى معرفة مدى جدية
المتدرب فى العمل، وتحديد ما يستحق من المكافأة فكل يوم غياب يخصم منها
مرت الأيام بين
سفر يومى وتعب، ومعرفة أشخاص جدد، ومعرفة هالات ودوائر من العظمة، والأبهة، تكونت
حول شخصيات وجدناهم من أبسط البشر، وأرفعهم تواضعا، ورأينا آخرين تحولت بهم العظمة
إلى آلات تسير منتفخة فى بذلاتها لا تفهم شئ من العلاقات الإنسانية، ولا تعى من
حواراتنا عن الظروف التى دفعتنا لهذا العمل الذى لا يحترم من آدميتنا شئ سوى كوننا
آلات تتحرك بإشارة منهم ، وتضحك لمقولاتهم، وتتجهم مع تحول قسمات وجههم إلى التجهم
، سقط العديد من نظرنا مع إنتهاء التدريب ووثقنا فى البعض منهم، وعلى كلٍ، ثقتنا
في الله أكبر ولكل نصيب، ولد وهو ملاصق له ومكتوب على جبينه ، المهم أن تمر تلك
المرحلة بسلام .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق