أسرار في المدينة الجامعية
فى المدينة الجامعية اسرار لا يعرفها الا من عاش داخلها هى دولة داخل الدولة ولكن يغلب عليها الطابع النسائى منه المتزمت الذى يتبع الجماعات المختلفة ومنها من يتبعون بعض الاحزاب ومنها الفئة المتحررة وهى قليلة خاصة فى مدينة جامعية تابعة للازهر مثلا ومنها الغالبية العظمى التى أتت من أرياف مصر من قراها ومحافظاتها البعيدة كى يستنشقوا عبير الحرية بعيدا عن قيود الريف ورجاله الذين يتطوعون دائما لحماية تلك الانثى الضعيفة فى كل شارع او حار او رصيف فهم دائمى التطوع لا يتركن لها متنفس السير او الحديث مع من ترغب او حتى الضحك بصوت مسموع هناك القيود عديدة ولكن هنا فى المدينة بما تحمله من ميول ورغبات وحتى تدين هو محض فكرة قد اقبلها او ابتعد عنها لا وصاية فيها الا لمن تترك نفسها لغيرها ولمن تخاف الحرية او من كبلتها القيود حتى وهى بعيدة عنها باميال عدة انها المدينة الجامعية بكل متناقضاتها .رمضان فى المدينة الجامعية مختلف جدا ينقصه الكثير من الحب ، من الالفة ومن الرضى ،مواعيد الطعام كماهى فى الصباح صينية الفول والبيض والعيش وغيره ، وفى مواعيد الغداء بعد الظهر نستلم الطعام سريعا ويظل بالحجرة حتى موعد الافطار لا أحد يهتم بما يمكن ان يحدث لهذا الطعام فى تلك الفترة من الظهر وحتى المغرب ، ولكن ما يهم هو خروج الموظفين بدرى حتى يتسنى لهم اعداد طعام الفطور لاسرهم ، كان لنا بوتجاز واحد للدور ن يتكالب عليه البنات فى فترة المغرب لاعداد او تسخين الطعام ، فكان لابد وان نتصرف ( الجيش قال لك اتصرف ، والمدينة الجامعية قالت لنا ، HELP YOUR SELF) كان امامنا خيارين إما الإفطار بالخارج وهذا لن نتمكن منه كل يوم أو الاستعانة بالصناعة اليدوية ، فقمنا بإعداد سخان خاص مكون من قالب طوب أحمر كبير يتم حفر مجرى لسلك حرارى خاص نصله بسلك معزول وفيشة ، وكانت نيران السخان بديعة المنظر نقوم بعداد الطعام عليه ونجتمع فى الحجرة حول مفرش او ورق الجرائد ونسمى الله ، ثم نقوم باخفاء الجريمة سريعا قبل التمام ونخفى السخان فى مكان آمن لنعيد الكرة كل يوم ونترحم على ساعة واحدة نقضيها فى بيتنا مع أعز الحبايب التى تعد لنا الافطار وتتحايل علينا أن نصحو وقت السحور ونحن نعذبها كل يوم ، هنا فى المدينة تعلمنا كيف تتكون فينا الامومة ومتى تحرمنا منها الايام ، واليوم نحن فى بيوتنا نقوم بهذا الواجب اليومى ، فدائرة الايام تمر سريعا ونشتاق ليوم بالمدينة الجامعية .
توفى أخى فى العام 1987 وكان طالبا فى الثانوية العامة لم يتبقى على امتحانه سوى عشرة أيام وكنا فى ليلة وقفة العيدالصغير ، ، كنت فى الصف الثانى الاعدادى ،عندها توقف زمننا لبعض الوقت ، أغلق التلفاز الذى اشتراه أبى حديثا وتم غطاؤه بقطعة قماش ، ارتدت أمى الاسود ، وتوقف أبى عن الجلوس امام البيت ولعب الطاوله ، أما أخى الاكبر فقد خرج من الجيش فقد اصبح وحيدا ، أختى التى تكبرنى باعوام وقد تم خطبتها تركت المدرسة الثانوية حزنا على رفيق مشوارها اليومى من وإلى المدرسة ، وقد انتهى امرها بالزواج كعادة قريتنا ،أما أنا فكان حزنى مختلط بالاسئلة التى حيرتنى ، كيف يختار الموت وينتقى هذا البشرى المفعم بالحيوية والنشاط والأخلاق ، ويترك هؤلاء المتسولين للرحمات على الرغم من امتلاكهم القوة للعمل ، وكيف يختار الموت لقلب هذه الام ان يفتر بهذا الشكل ما بقى لها من عمر ، ولهذا الاب ان يسكنه الحزن الذى يداريه امامنا بصلابته المعهودة ، كيف ينتقى الموت اصحاب الرسالات ؟ على كل لم أكن على خريطة الاهتمام بما يدور بداخلى فكان الانطواء هو والعزلة التى اداريها بالطاعة هى مسلكى ، والبحث عن إجابات لاسئلتى فى مناحى أخرى ، توقف الزمن عن الإلتقاء بالعالم الخارجى وأحداثه والتطور الذى يحدث خارج محيط بيتنا ، حتى التحقت بالجامعة وهنا كان اتساع الفجوة بين ما انا عليه وما يدور من حولى ، سواء فى الملبس أو طريقة المعيشة او حتى فى الثقافة العامة وتطور اللغة والمصطلحات الحديثة التى تستخدمها الطلة والطالبات ، الجمود الذى يغلف عقلى ويجعله يتوقف أمام أتفه الأمور العلاقات الانسانية بين الشباب والشابات وكيف يكون الحوار البرئ محرما من وجهة نظرى ،اليوم وبعد محاولات الالتحاق بركب التطور فى كل شئ أجدنى أحتاج إلى صنع هذه الفجوة بنفسى والعزلة ولو لشهور عن مجريات الاحداث التى حطمت خلاياى ، الأن أحتاج لهدنة من كل الصخب الذى أصم أذنى ، وعطل حواسى عن الاستمتاع بسير الزمن الممنهج ورتمه الطبيعى ،ولكن العجلة تأبى أن تتوقف .
فى المدينة الجامعية
يكون التمام دائما فى السادسة أما فى رمضان هذا الشهر المبارك فكان التمام فى الثامنة مساءً ، وكان لقرب المسافة بين محافطة القليوبية والمدينة أغرتنى يوما فى التأخر حتى أفطر مع عائلتى ، ارتديت ملابسى قبل الافطار وتناولته معهم على عجل ثم حملت حقيبة السفر التى تحمل من خيرات امى الكثير وأسرعت فى السفر وصلت إلى باب المدينة الثامنة إلا خمس دقائق ، لم يكن هناك فزع من تأخيرى او ريب فى هويتى ، أو هل اسكن المدينة أم لا ، بل كانت الوشوش تبتسم وتنادى اسرعى حتى لا يكلمك الضابط ندخل مسرعين فى مهرجان طكبير من الفتيات على الابواب كل واحدة تودع ابيها او اخيها او خطيبها او حبيبها اى كان ومن خلف الابواب يسرعون إلى البلكونات ملوحين حتى يغيبون عن الانظار أما انا فأحمل حقيبتى وادلف إلى غرفتى أسامر زميلاتى الصاعيدة المحرومات من السفر ببعض خيرات امى من الطعام البيتى المشتاقين له .
الآن نتهيأ لمغادرة المبنى ساعات ونقدم العهدة التى نستلمها أول العام عبارة عن بطانية وسرفيس وبعض الاشياء الصغيرة ، الكل في همة ونشاط حتى ننتهى مبكرا من اتمام الإجراءات قبل انصراف الموظفين ، ونضطر للبقاء يوم آخر ، على أول الكريدور تقف و سعادة العالم قد تجمعت بين مقلتيها ، تحمل بيدها شنطة ذات ألوان ذاهية ، وبيدها الاخرى تلوح لنا من بعيد كى نقف عن مسيرتنا نحو الدور السقلى ، تقطع المسافة بينها وبيننا فى خطوة واحدة بسرعة الضوء ، تلف حولنا وحول نفسها كراقصة باليه محترفة ، تساعدها رشاقة جسدها ، وحذائها الرياضى الخفيف ، بابتسامة ملئ فمها ، وارتفاع فى ذقنها ، ونظرة جانبية متكبرة ، تقول : ها أنا اليوم الملكة ، سوف البس فستان المُلك وطرحة أقصد تاج العرس ، تتلهف الفتيات التى تجمعت من كل مكان على زغرودة صارخة من زميلة لنا هزت اركان الطُرقة ، وفى ثوان معدودة تجمعن حولها يدورون ويغنون ( بطلودا واسمعودا ياما لسة نشوف وياما الغراب يا وقعة سودة جوزوه أحلى يمامة ) ، لم يكن غرابا فكلنا نعرفه وسيم جميل المحيا ، له نغزة بالخد رمز الجمال والخفة ، طويل يحمل سمرة أهل الصعيد الذى ينتمى له ، وشهامتهم المعهودة ، كان لقاءهم الأول فى عيادة الكلية للاسنان ، الطبيب والمريضة ، تبادلا الحديث فكانت صلة القرابة هى العنوان الأول ، البلد واحد والعائلة التى لم تعد تعرف أفرادها بعضهم بعضا ، والغربة التى فرقتهم والمعيشة الصعبة فى الصعيد التى فصلتهم عنه ، توالت اللقاءات وانتقلت إلى خارج حيز الجامعة والسكن ، أمضيا عامين فى نشوة حب جارف ،تواعدا على الإرتباط ، وأوفى كل منهم للأخر ، لم تفرقهم سوى أجازات معدودة تقضيها هى فى بلدهم بالصعيد ،يختلسان فيها بعض المكالمات الهاتفية ليظل جسر الشوق ممدودا ، صارح أباه بحبه لها وكتمت عاطفتها بداخلها ، كان جواب الأب رصاصة غدر لقلبه ، الرفض هو رأسها ، والصمت هو زندها ، عادت الجامعة فى عامها الثالث تفتح أبوابها وعادت هى تفتح ذراعيها للحياة ، آلمها ما آل اليه موقف الأب ، والأمل يداعبهما ، قضيا نصف العام ، أراد أن ينتصر لحبه ، سافر الى الصعيد يطلب يدها ،وبكل ثقة عرّف نفسه ومدى قرابتهما ، تجهم وجه الاب ولكنه سرعان ما انفتحت اساريره كأنما وجد بغيته ، رحب بالفارس أيما ترحيب ، مد يده له لقراءة الفاتحة ، وعاد يحمل سعادة الدنيا على وجهه تسبقه غمازتيه ليروى لأباه ، توقف الزمن بالأب ودارت به الدنيا ،هدد وتوعد ولكنه استسلم أخيرا لرغبة الابن ، انتهى العام الدراسى وتحدد ميعاد كتب الكتاب ، اشترت فستان العرس واحتفلنا بها وأنشدنا لها طيلة الليل ، غادرت فى الصباح تحمل فرحها بين يديها ، والطير يحملها على جناحه ، لم تنتظر القطار ، استقلت أول حافلة تنقلها إلى بلدها لتستعد لفرحتها الكبرى ، مرت الأجازة ، وبدأنا فى استقبال عام جديد وكلنا شوق لمعرفة أخبار العروسة ، عادت وحيدة ودبلة لا تفارق اصبعها ، ودمعة حزينة لا تغادر خدها الصغير ، ضممتها إلى صدرى كى تفرغ ما بداخلها من ألم ، قالت: لقد حملت اليهم ثأرا استغرق خمسة وعشرين عاما حتى يُقضى ، بيدى حملته اليهم وفى يوم كتب كتابى ، كانوا يكتبون على قبر أخى الذى لم أراه اسم قاتله ، وأطلقوا رصاصات الفرح التى استقرت أحدها فى صدره ، وغرسوا الثانية فى قلبى ، انتزعوا روحه وانتزعوا معه حياتى ، بيدها تحمل زجاجة صغيرة يستقبلها فمها مبتسما وتمد يدها اليه لتذهب معه إلى حيث ينتميان ، إلى فرحة العمر .
فى المدينة الجامعية
أسرار تراوغ كل القائمين والعابرين ، بين جدرانها سبل لا يعلمها سوى ساكنيها ، يبادرون القادم بما يحمله على الهجرة مع اول نور للفجر الجديد ، او يغامر فيسقيهم من مر مدائنه البعيده القادم منها يحمل الخير بداخله والسم للحيات الساكنه بين الجدران ، وحكايات العفاريت التى لا تبارح الأدوار وممراتها ، ناهيك عن اسوارها العالية التى تحمل بين طياتها خربشات المتسلقين والبصاصين .
فى المدينة عيون تبكى وحيده ، وعيون تنظر بترقب نحو القادم ، وعيون تتداول النظر فى صدور الفتيات تبحث عن فرجة .
فيها براح وفيها السجن ، وفيها الهدوء وفيها الصخب ، فيها دفء الشمس فى عز البرد وحرارة الهجير فى ليل الشتاء القارص ، فيها انا مدينة وحدى .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق